لا يشي مظهره الهادئ وبرود أعصابه بحجم المأساة الشخصية التي يعيشها، فالصحافي بسام الوحيدي (30 عاماً) يوشك على التسليم بفقدانه بصره والعيش في ظلمة دائمة، في حال لم يجري عملية لإعادة شبكية العين الى موضعها، كان من المقرر أن تجرى له في إحدى المستشفيات الفلسطينية في القدس الشهر الماضي. فرغم اتمام الوحيدي الصحافي ومقدم البرامج الإخبارية في إذاعة " صوت العمال " بغزة، كل الإجراءات الإدارية والفنية اللازمة لسفره للقدس، إلا أن ضابط جهاز المخابرات الداخلية الصهيونية " الشاباك " المتواجدين في معبر " ايرز " الصهيوني الذي يقع على الحدود الشمالية بين قطاع غزة وإسرائيل لا يسمحون له بالمرور حتى يوافق على أن يكوناً عميلاً لإسرائيل ويقدم معلومات حول أنشطة حركات المقاومة الفلسطينية العاملة في القطاع وقادتها وعناصرها.
عندما توجه الوحيدي في اليوم المقرر لإجراء العملية الى القدس، استوقفه عناصر " الشاباك " في معبر" ايرز "، و قاموا بإهانته، و تعريته كاملاً، قبل أن يتم إدخاله على أحد محققي الجهاز في أحد الطوابق الأرضية في المعبر. المحقق الذي عرف نفسه ب " الكابتن "، وجه له على مدار خمس ساعات ونصف سيلاً من الأسئلة حول حركات المقاومة، طالباً تزويده بكل ما يعرف عنها، حتى يسمح له بالوصول للقدس لإجراء العملية، مستخدماً شتى أساليب الترغيب والترهيب، التي تتقنها أجهزة المخابرات. الوحيدي الذي ينتمي الى إحدى العائلات الفلسطينية الغزاوية العريقة التي إرتبطت بالنضال ضد الإحتلال، رفض مجرد التفكير في عروض محقق " الشاباك "، وسخر من محاولاته لتجنيده ليصبح مجرد عميل. في هذه الأثناء حل موعد إجراء العملية وهو مازال في غرفة التحقيق، وفي تمام الساعة السادسة مساءاً، وبعد أن يئس " الكابتن " من الوحيدي، نهره من المكتب، واعداً إياه بأنه " سيفقد بصره " للأبد، ولن يسمح له بالتوجه للقدس حتى يوافق على توظيف الإمكانيات المتاحة له كصحافي في التعاون مع " الشاباك " في تقديم معلومات حول حركات المقاومة، وتحديداً نشطائها الضالعين في عمليات إطلاق الصواريخ على المستوطنات اليهودية. الوحيدي الذي روى ل " ويكلي " قصته يقول بثقة أنه تحديداً بعد كل ما تعرض له على أيدي عناصر " الشاباك " تكرست لديه القناعة بأنه يتوجب مقاومة الاحتلال لتغيير الواقع الذي يسمح له بالتأثير على حياة الفلسطينيين الى هذا الحد. عمليات الإبتزاز السادية التي يتعرض لها المرضى الفلسطينيون الذين يعانون الأمراض المزمنة على أيدي عناصر " الشاباك "، أصبحت حديث الشارع في قطاع غزة لكثرة المحاولات التي يبذلها هؤلاء من أجل إسقاط أكبر عدد من هؤلاء المرضى في شباكهم. وتبدأ القصة عندما يتقدم المريض الفلسطيني بطلب للدائرة التنسيق المدني الصهيوني الفلسطيني للحصول على تصريح يسمح للمريض بالسفر من غزة الى إحدى مستشفيات الضفة الغربية أو إسرائيل لإجراء عملية، و بعد جهود مضنية، يحصل المريض على هذا التصريح ويتوجه الى معبر " إيرز "، وهناك يحدث مع معظم هؤلاء المرضى ما حدث مع الوحيدي. ومن خلال الملفات التي اطلعت عليها " ويكلي " في مراكز حقوق الإنسان حول ممارسات " الشاباك "، يتبين أن ضباط هذا الجهاز في محاولاتهم للإيقاع بالمرضي وابتزازهم لا يميزون بين شاب وعجوز وأمرأة وحتى طفل. البرفسور كامل المغني ( 65 عاماً )، عميد كلية الفنون الجميلة سابقاً في جامعة النجاح الوطنية بنابلس، يقطن في حي " الشجاعية " بمدينة غزة، أصيب قبل عامين بمرض السرطان في الرقبة. أجريت له عملية جراحية في إحدى المستشفيات الصهيونية، الأمر الذي أدى الى تحسن حالته الصحية. المشرفون على علاجه طلبوا منه أن يقوم بزيارات دورية لتلقي علاج بالإشعة حتى لا تحدث انتكاسة في وضعه الصحي. قبل شهر توجه المغني الى إسرائيل، لكن في معبر " إيرز "، فوجئ بعدد من عناصر " الشاباك " يقتادونه الى الى غرفة ارضية ليتعرض للإبتزاز من قبل أحد محققي " الشاباك "، الذي أوضح له بشكل لا يقبل التأويل أن السماح له بمواصلة طريقه الى المستشفى الصهيوني يتوقف على مدى استعداده للتعاون مع " الشاباك " وتزويده بمعلومات عن نشطاء المقاومة. المغني الذي استهجن أن يجرؤ رجل " الشاباك " على طرح هذا العرض عليه، وهو يعرف منزلته العلمية وتقدمه في العمر، رفض العرض، فعاد الى غزة، وهو يخشى أن يحدث ما يخشاه وتنتكس حالته من جديد. سيدة رفضت الكشف عن إسمها، تبلغ من العمر 34 عاماً، اصيبت بالسرطان، وتقرر إجراء عملية جراحية لها في احدى مستشفيات إسرائيل، وعندما وصلت معبر " ايرز "، كان في انتظارها محقق " الشاباك " الذي حاول ابتزازها، فرجعت دون أن تجري العملية، ومنذ ذلك الوقت، ووضعها الصحي يزداد سوءاً. راجي الصوراني، مدير " المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان "، أبلغ " ويكلي "، أن مركزه رصد حالات قام فيها ضباط " الشاباك " بمحاولة اسقاط أطفال مرضى عبر مقايضة حصولهم على الخدمة الصحية بتقديم معلومات استخبارية ل " الشاباك ". الصوراني يشير الى نقطة بالغة الأهمية وتتمثل في أن " الممارسات الإجرامية " للشاباك قادته الى محاولة استغلال الأوضاع الصحية القاسية لبعض المعتقلين الفلسطينيين في السجون الصهيونية، ومقايضتهم تلقي العلاج بالتجسس على زملائهم في السجن. الصوراني يشدد على أن ما يقوم به " الشاباك " يمثل تجاوز لكل القوانين الدولية والتي تؤكد على حق المرضى تلقي العلاج المناسب لهم، مشيراً الى أن ما يقوم به جهاز " الشاباك " وإسرائيل يمثل " جريمة حرب ضد الانسانية ". لكن الصوراني الذي نجح مركزه في استصدار مذكرة اعتقال ضد عدد من جنرالات الجيش وقادة المخابرات الاسرائيلية في بريطانيا وأمريكا بعد اتهامهم بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينييين، يقر أنه الصعب جداً على مركزه رفع دعاوى قانونية ضد قادة " الشاباك " وزعماء إسرائيل بسبب عمليات الإبتزاز التي يقومون بها ضد المرضى الفلسطينيين، حيث أن رفع الدعاوى القضائية يتطلب وجود شهود يدلون بشهادات مشفوعة بالقسم أمام المحاكم.
ويرى الصوراني أن ضحايا الإبتزاز يرفضون في أغلب الحالات الكشف عن انفسهم، وتقديم شهادات لأنهم يظلوا يأملون بأن تسمح لهم إسرائيل بالمرور لتلقي العلاج، ويخشون أنه في حال قاموا برفع دعاوى ضد إسرائيل، فأن فرصهم بالحصول على تصاريح للوصول للمستشفيات ستتهاوى. لكن مصدر امني فلسطيني أكد ل " ويكلي " أنه الى جانب رفض معظم الفلسطينيين الذين يتعرضون للإبتزاز من قبل " الشاباك " محاولاته استغلال ضائقتهم الإنسانية من أجل تجنيدهم لصالحه، فأن قلة قليلة من المرضى يقبلون بالتعاون من أجل محاولة انقاذ حياتهم. وأكد المصدر أن بعض الذين وافقوا مضطرين للتعامل مع " الشاباك " توجهوا للاجهزة الأمنية وأطلعوها على ما حدث وطبيعة المعلومات التي قدموها ل "الشاباك "، حيث تم الافراج عنهم بعد التأكد من قيامهم بقطع علاقتهم بالاستخبارات الصهيونية. اللافت للنظر أن المنظمات الحقوقية الصهيونية ترصد بشكل متواصل محاولات " الشاباك " إبتزاز المرضى الفلسطينيين. "في الفترة الاخيرة نحن نلمس ارتفاعا ملحوظا في توجهات المرضى الفلسطينيين خصوصا من سكان غزة الذين يشترط السماح لهم بالحصول على العلاج خارج القطاع بالتعاون مع الشباك"، يقول ران يارون، الناطق بلسان منظمة "اطباء من اجل حقوق الانسان" الصهيونية. "أنا أواجه مجموعة من الناس يشعرون بالعجز والخوف، هؤلاء اشخاص موجودين في مصيدة، فمن ناحية هم قلقون على وضعهم الصحي، لكنهم في نفس الوقت هم ليسوا مستعدين للتعاون مع إسرائيل وتقديم معلومات استخبارية لها مقابل إنقاذ حياتهم ". أما الدكتور داني فيلك، رئيس " أطباء من أجل حقوق الإنسان "، فيعتبر أن ما يقوم به " الشاباك " ضد المرضى الفلسطينيين بتفويض من الحكومة الصهيونية " أمر مرفوض من حيث الاخلاقيات الطبية ومن منطلق كل رؤية اخلاقية يمكن ان تخطر على البال. فليس كل شيء متاح من الناحية الاخلاقية باسم الامن. ومثلما يحظر التعذيب فالضغط على المريض أو استغلال مرض انسان ما لتحويله الى عميل هو أمر مرفوض كذلك. المناعة الاخلاقية والمعايير الاخلاقية هما في نظري اللذان يوفران الأمن للدولة على المدى الابعد. الدولة التي تتدهور اخلاقيا لا تصمد كمجتمع ". اللافت للنظر أن ضباط " الشاباك " الذين تقاعدوا يعترفون أن لديهم تعليمات مشددة بممارسة اقصى درجات الإبتزاز والإستغلال من أجل اجبار المرضى الفلسطينيين على أن يصبحوا عملاء لإسرائيل. أفنير (Avner )، أحد كبار ضباط " الشاباك " سابقاً، وقد تسرح من الخدمة قبل عدة سنوات يعترف في حديث مع صحيفة " معاريف " الصهيونية في عددها الصادر الجمعة الماضي بأن التعليمات الصادرة للضباط المسؤولين عن تجنيد العملاء بألا يترددوا في استغلال أي حالة إنسانية مهما كانت صعبة من أجل تجنيد أكبر عدد من العملاء في صفوف الفلسطينيين. اللافت للنظر أن جهاز " الشاباك " مثله مثل جهاز " الموساد " يخضع مباشرة " لسلطة رئيس الحكومة الصهيونية، وكل العمليات التي يقوم بها هذا الجهاد تتم بعد المصادقة عليها من رئيس الوزراء شخصياً. فقط من يلتقي بهؤلاء الأشخاص البائسين الذين يكابدون الأمراض المزمنة و تمر عليهم الدقائق كسنين، وهم ينتظرون الموت، و الذين لا يمنحون أبسط الحقوق الإنسانية الفرصة في تلقي العلاج لمجرد رفضهم أن يصبحوا عملاء يتعاونون مع عدوهم على شعبهم، يستطيع أن يتفهم حجم الكراهية التي تعتمل في قلوب الفلسطينيين تجاه إسرائيل. والذي يثير المرارة في نفوس هؤلاء المرضى وعوائلهم وكل من يطلع على أحوالهم هو صمت العالم على ما يتعرضون له من إجرام دولة منظم. |